الأربعاء، 19 أغسطس 2009

الإسلام والأنسنة بين الاستشرق والفكر العربي المعاصر ,هل يمكن عصرنة الإسلام؟!

الإسلام والأنسنة بين الاستشرق والفكر العربي المعاصر ,هل يمكن عصرنة الإسلام؟!

أيمن عبدالرسول





إن الدين الذي يهمل الاجتهاد الفكري المبدع والناقد لجميع ماينتجه العقل، يصبح لامحالة آلة خطرة يستغلها المتلاعبون بالنفوس والقامعون للحريات الأساسية التي يتطلبها كل إنسان لكي يرتقي الي درجة الأنسنة.

هذه أولي المسلمات الغائبة عن أولي الأمر والنهي في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، وربما القديمة علي حد سواء، وهي المسلمة التي أتخذها أركون في مقدمه كتابة الجديد (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية)، ركيزة لإفتتاح عدد من التساؤلات والإشكالات عبر ستة فصول يشكلون متن الكتاب، وهكذا يستكمل أركون حفر مشروعه الصعب، وطريقه الوعر، الذي يمشي علي جمر الاختلاف، متجاوزا وعي الصدأ الأصولي القديم، ووعي إدعاء التجاوز الإستشراقي القديم والجديد علي السواء.

فقد بدأ أهتمامه بقضية الأنسنة في السياقات الإسلامية منذ الستينات عندما شرع في تحضير أطروحته عن جيل مسكويه وأبي حيان التوحيدي، وأبي الفضل بن العميد، والصاحب بن عباد وجميع الأدباء والفلاسفة والكتاب الذين كانوا يساهمون في إنعاش المناظرات الشيقة المعروفة وفي خلق الجو الفكري الاستثنائي الذي ساد في مجالس العلم أثناء القرن الرابع الهجري.

وقد أشتق، ولانقول اخترع مصطلح الأنسنة كتعريب للمصطلح الأوروبي هيومانيزم Humanism، الذي يترجم عادة بالنزعة الإنسانية، أو الفلسفة الإنسانية، لكنه المؤلف يصر علي الفرق بين هاتين المصطلحين والأنسنة، لأن الأخيرة تركز علي الاجتهادات الفكرية لتعقل الوضع البشري وفتح آفاق جديدة لمعني المساعي البشرية لإنتاج التاريخ، المتكون من صراع دائم بين قوي الشر والخير، القبح والجمال، الباطل والحق، الجهل والمعرفة.

ويزعم أركون في أطروحته سالفة الذكر ان الإسلام الكلاسيكي شهد الأنسنة قبل أن تشهدها أورو با في القرن السادس عشر اثناء عصر النهضة، ولكن هذه الحركة الناتجة عن مزج الفلسفة الاغريقية بالدين الإسلامي اجهضت ولم تدم طويلا، هذه الأنسنة التي يمثلها في زعم أركون الجاحظ والتوحيدي بإلتزام متميز بقضايا الإنسان كإنسان بغض النظر عن إستغلال معالجة تلك القضايا لأغراض شخصية، أو أيديولوجية أو مادية، إن الأنسنة كما فهمها وجسدها التوحيدي مثلا تثور علي الإنسان عندما يصبح العدو الأخطر للإنسان.

ويتضح من جميع نصوص الكتاب الذي بين أيدينا، ومن نصوص سبقتها لنفس المؤلف ، أن الأنسنة التي أيدها وجسدها أمثال الجاحظ والتوحيدي ومسكويه لاتنحصر فقط في الممارسة الماهرة والذكية للعلوم المختنلفة ، ولا في التذوق الجمالي لبلاغة الخطاب وغزارة الأفكار وقوة العقل في الأستدلال، ولا في المسابقات والمنافسات التي كانت تجري بين العلماء والأدباء لكي ينالوا رعاية السلطان او التشريفات الاجتماعية، لاشك ان الأنسنة لاتخلو من تلك الصفات في البيئات المختلفة التي ظهرت فيها سواء في اوروبا منذ ظهورها في القرن السادس عشر او قبل ذلك في المدن المشهورة في عهد الإسلام الكلاسيكي.

وليس أدل علي غياب الأنسنة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر من إختفاء الأدب بالمفهوم الكلاسيكي للأدب، والذي كان يدل دلالة وافية مقنعة عن الأبعاد الفكرية والمعرفية والأخلاقية والروحية والشرعية والجمالية والسياسية التي يتصف بها موقف الأديب كما وصفه التوحيدي في جميع كتبه، تلك الكتب التي تشتمل علي جميع العلوم المتداولة في عصره، أو تتعرض لها وتناقشها، وكان التوحيدي يفعل ذلك دون التقيد ابدا بالفصل الدوجمائي بين العلوم الدينية/ النقلية والعلوم العقلية/ الدخيلة، لماذا؟! لأنها كانت تهتم جميعا بالإنسان، وتهم ا لإنسان ثم وهذا هو الأهم. لأن العقل والنقل قد يخطئان فيما يقدمان من روايات وتفسيرات وتنظيرات. وبالتالي فيحتاجان الي مراجعة نقدية ملحة، تكشف عن المعرفة الخاطئة المزيفة للواقع والملبسة لحقائق الأمور بالباطل والكذب والأفتراء.

إضافة الي ماسبق، يري أركون أن مصطلح 'الأنسنة' يلفت الأنتباه الي تلك الأبعاد الغائبة بعد ازدهارها في عهد الأدب والأدباء، بما يعني الدعوة بإلحاح الش ضرورة إحياء الموقف الفلسفي في الفكر العربي خاصة والفكر الإسلامي عامة، ويعتقد أنه لاسبيل إلي الإعتناء بمصير الإنسان إعتناءا شاملا، نقديا، منيرا، محررا، بدون التساؤل الفلسفي عن آفاق المعني التي يقترحها العقل ويدافع عنها. وهي آفاق يدور حولها نقاش مستمر، وجدالات متجدة وإختلافات مثرية، أو مؤدية لحروب مدمرة، وبصدد دور الموقف الفلسفي في التأصيل الفكري النقدي للنزعة الإنسانية، لابد من ذكر الموقف الديني الذي يعتني أيضا بمصير الإنسان وهدايته الي الطريق المستقيم.

ويتأسف المؤلف علي ان المناظرات الفكرية رفيعة المستوي التي كانت تجري بين مفكرين كبار ينتمون الي مذاهب مختلفة، ويتقنون علوما متعددة، بل ويعتنقون أديانا متعادية أو متنافسة، قد استبدلت بالضجيج الأيديولوجي السائد في المناقشات والحروب الجارية اليوم لأن التعددية المذهبية والثقافية واللغوية صفات أساسية وتأسيسية للموقف الانساني، والأعتراف بهذه التعددية، كان سائدا، مقبولا، نافعا في فجر الإسلام وضحاه، إلي أن بدأ نجمها في الأفول في عهد الخليفة القادر الذي أحل دم القائل بخلق القرآن، وفرض موقفا سياسيا في أصله ومقاصده علي حرية الرأي فيما يتعلق بالمسائل اللاهوتية والشرعية، كما أنه وضع المذاهب الدينية تحت رقابة السلطان، ومن وقتها ­فيما نري جميعا­ ولم يزل وضع الإسلام كدين علي هذا النحو خاضعا لأوامر السلطان القائم في جميع السياقات الإسلامية المعاصرة.

ويمكن من خلال ماسبق كما يقترح أركون أن نلمح التضامن الأيديولوجي بين الدولة والدين المستقيم، وطبقه علماء الدين المحتكرين لإدارة ذهنية التحريم، وبقدر مايسود هذا التضامن ويقوي بقدر ماتضمحل النزعة الإنسانية، ويتهمش الموقف الفسلفي، وتغيب الثقافة النقدية أو تنعدم، وهي ثقافة بحاجة إلي حرية الفكر، والتعبير، والنشر، وإنشاء الجمعات والمنتديات داخل المجتمع المدني.

فإذا كنا نريد أستبدال ذهنية التحريم بذهنية الأنسنة المنفتحة، المؤمنة بفضائل الأنسان، المحترمة لكرامته ومؤهلاته لممارسة حقوقه ووجباته بكل مسئولية فكرية بشرط أن نوفر له جميع وسائل التربية الانسانية ومناهجها وبرامجها، كما ينبغي أن نوفر فرص التثقيف القابل للتثاقف والتفاعل المبدع مع جميع الثقافات الأخري وفنونها ومراتبها المختلفة، دون تفضيل ثقافة رسمية، وتهميش أو عزل ثقافات شعبية شفاهية.

في الفصل الأول المعنون (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية) يستعرض أركون من خلال تجربته الشخصية ومسار حياته أهمية التواصل الحر، الشفهي بين الذوات والضمائر المختلفة من خلال المناظرة، والحوار الحي، والدور الكبير الذي يمارسه هذا التواصل الحواري الحر من إغناء للموقف الإنساني الناتج عن أنيسة الحوار وفورية السؤال والجواب­ كل هذه الأنظمة والأفكار المختلفة، يصبح هدفها في النهاية: البحث عن معني، مستشهدا في ذلك بنجاح التوحيدي في نقل مثل هذه الحوارات في الإمتاع والمؤانسة، والهوامل والشوامل، والمقابسات، وغيرها، حيث كان يسجل ما يدور من مناقشات حول مختلف القضايا العلمية والفلسفية بين العلماء المختلفين في وجهات نظرهم إلي حد بعيد.

لو أننا جميعا إنخرطنا في ممارسة إحياء النزعة الإنسانية ­كما يري أركون­ لنجحنا في جعل أكبر عدد من القراء يساهمون في بلورة الأنسنة في مجتمعات مكتسحة الآن من قبل القوي المضادة للإنسانية، ان الموقف الإنساني يقترح حالات أو صيغا للعقل، ومسارات للمعرفة، واستراتيجيات للتدخل من اجل تحجيم المواقف اللاإنسانية، وكذلك الموقف الديني يهدف إلي تحقيق المقاصد نفسها: أي تنمية الجزء الأكثر إنسانية في الإنسان لأجل حمايته من عنفه ضد نفسه، مع اختلاف الشروط وانماط المعرفة بين الفلسفة والدين.

أما الفصل الثاني وهو عودة إلي ذات القضية، يناقش موقف الغرب من الأنسنة في السياقات الإسلامية بين النفي والإثبات، ثم يناقش دور حروب التحرير التي خاضتها الأنظمة الإسلامية ضد الأستعمار، في تحجيم نزعة الأنسنة بوصفها من منتجات الحداثة الغربية، ولاسبيل للمقارنة بين تنامي هذه النزعة في الغرب المعلمن، والشرق المؤسلم، رغم ظواهر إستقلال المجتمع المدني، التي لم تزل بعيدة عن الطبقات الكادحة من شعوب المنطقة بوصفها ثقافة نخبة، وربما اصبح علي المثقف المسلم النقدي ان يواجه إشكالين اساسيين، الأول تقديم مايخصه من التراث وإضاءة تعتيماته، ومن ناحية ان يخوض معارك الحداثة وإدماجها في مجتمعاته الإسلامية.

وعن الأنسنة العربية في القرن الرابع الهجري طبقا لكتاب الهوامل والشوامل، يدور الفصل الثالث الذي يعرض فيه المؤلف البنية الداخلية للكتاب المكون من 175 مسألة أو هوامل، مع أجوابتها، أي الشوامل، والهيئة الحوارية للكتاب المضادة للملل، ومن خلال تحليل لشخصيتين هما مؤلفي الكتاب أبي حيان التوحيدي المفكر الإنساني الناقم أو الساخط، بعقلانيته، وجرأته في طرح الأسئلة العفوية والإنفعالية احيانا، ومناقشته لقضايا إنسانية واقعية، وإنتصاره للعقل المؤمن، ودور ابوسليمان المنطقي السجستاني في تنمية هذا الموقف عنده، والتوجهات الثقافية والمحن الإنسانية التي تعرض لها التوحيدي، وأثر ذلك علي صياغته لأسئلته، وعلي الجانب الآخر يقف الإنساني الرصين مسكوب، صاحب الموقف الفلسفي، المعني بحدود التعريف، والمنهجية الصارمة، وأرتباط العقل الإنساني عنده بالعقل المطلق ­في النهاية يخلص المؤلف الي انهما معا اهم ممثلي الأنسنة في القرن الرابع الهجري كما يشهد كتاب الهوامل والشوامل.

ومن خلال المنهج نفسه يناقش أركون في الفصل الرابع تصورات السعادة والتوقان إلي النجاه في الفكر الإسلامي كما تعرض لها مسكويه في كتابه تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، لأنه يمثل من وجهة نظره التعبير الأكثر وضوحا والأفضل تأليفا وتأثيرا عن موضوع السعادة في السياق الإسلامي. وبين واقع الإسلام الكلاسيكي، وفترة عطائه الخصبة، والوقت الراهن يجري أركون محاولة مقارنة، وربط ليصل إلي أن أية امل في السعادة أو النجاة في الوقت الراهن تقابل بمزيد من الرفض، بعدما أدت إليه الدولة القومية من بؤس واقعي، ومحدودية الطموح للطبقات الأكثر شعبية فيها.

هل يتضاد اللوجوس المركزي مع الحقيقة الدينية والأنسانية في الفكر الإسلامي؟ يحاول المؤلف في الفصل الخامس بحث هذه الفرضية من خلال كتاب الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن العامري. مستشرفا أفق المسكوت عنه في هذا الكتاب الديني بالأساس، الذي يستخدم الدفاع الفلسفي عن الديني لصالح الإنسان بأعتبار العقل يستمد انواره من القوة العاقلة التي خلقها الله أي انه عقل مهتدي بأنوار الحق الآلهي أي الوحي، حيث نكتشف إمتياز الكتاب بنمط الكتابة الفلسفية، بعيدا عن اسطورية التشيع او إدعاء العقلانية السنية، بإختصار يحاول اركون البرهنة علي وجود أنسنة دينية في السياق الإسلامي سابقة علي الأنسنة الأوروبية.

وفي الفصل الأخير من أجل تعليم الأنثربولوجية الدينية، وهو محاضرة موجهة الي الجمهور الفرنسي في محاولة لإقناعه بدمج الإسلام في المنظور الواسع للأديان وفي النهاية نجد طروحات اركون بهذا الكتاب إستمرارا لسعيه الدؤوب لزرع مايطلق عليه الإسلاميات التطبيقية في السياقات الإسلامية المعاصرة، ونحن جميعا ­ باحثي الإسلاميات­ مطالبون بالإنخراط في معارك جديدة، مفتوحة دائما من أجل دمج الآنسنة بوصفها الملاذ الأخير للإنسان في مواجهة إضطهاد مدعي الأسلمة في مجتمعاتنا التي لم تزل تعاني من الجهل بالإسلام، رغم إدعاء الفهم، فهل ننجح ؟!!



جريدة القاهرة 14-7-2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صرح من غير متجرح